فصل: الْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ الطّيبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ:

فَلَمّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ رَكِبَ حَتّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَوَقَفَ فِي ذَيْلِ الْجَبَلِ عِنْدَ الصّخَرَاتِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَانَ عَلَى بَعِيرِهِ فَأَخَذَ فِي الدّعَاءِ وَالتّضَرّعِ وَالِابْتِهَالِ إلَى غُرُوبِ الشّمْسِ وَأَمَرَ النّاسَ أَنْ يَرْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَأَخْبَرَ أَنّ عَرَفَةَ لَا تَخْتَصّ بِمَوْقِفِهِ ذَلِكَ بَلْ قَالَ وَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلّهَا مَوْقِفٌ وَأَرْسَلَ إلَى النّاسِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مَشَاعِرِهِمْ وَيَقِفُوا بِهَا، فَإِنّهَا مِنْ إرْثِ أَبِيهِمْ إبْرَاهِيمَ وَهُنَالِكَ أَقْبَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، فَسَأَلُوهُ عَنْ الْحَجّ فَقَالَ الْحَجّ عَرَفَةُ مَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الصّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، تَمّ حَجّهُ أَيّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ.

.مَا وَرَدَ فِي دُعَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعَرَفَةَ:

وَكَانَ فِي دُعَائِهِ رَافِعًا يَدَيْهِ إلَى صَدْرِهِ كَاسْتِطْعَامِ الْمِسْكِينِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّ خَيْرَ الدّعُاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَذَكَرَ مِنْ دُعَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَوْقِفِ اللّهُمّ لَكَ الْحَمْدُ كَاَلّذِي نَقُولُ، وَخَيْرًا مِمّا نَقُولُ اللّهُمّ لَكَ صَلَاتِي وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي، وَإِلَيْكَ مَآبِي، وَلَكَ رَبّي تُرَاثِي، اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصّدْرِ وَشَتَاتِ الْأَمْرِ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ مَا تَجِيءُ بِهِ الرّيحُ ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ. اللّهُمّ تَسْمَعُ كَلَامِي، وَتَرَى مَكَانِي، وَتَعْلَمُ سِرّيّ وَعَلَانِيَتِي، لَا يَخْفَى عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي، أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ وَالْوَجِلُ الْمُشْفِقُ الْمُقِرّ الْمُعْتَرِفُ بِذُنُوبِي، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ وَأَبْتَهِلُ إلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذّلِيلِ وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضّرِيرِ مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ وَفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ وَذُلّ جَسَدُهُ وَرَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ اللّهُمّ لَا تَجْعَلْنِي بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّا، وَكُنْ بِي رَءُوفًا رَحِيمًا، يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ ذَكَرَهُ الطّبَرَانِيّ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ: لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ: «أَكْثَرُ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي بِعَرَفَةَ: لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللّهُمّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي صَدْرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، اللّهُمّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسّرْ لِي أَمْرِي، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْوَاسِ الصّدْرِ وَشَتَاتِ الْأَمْرِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ اللَهُمّ إنّي أَعُوذُ بِك مِنْ شَرّ مَا يَلِجُ فِي اللّيْلِ وَشَرّ مَا يَلِجُ فِي النّهَارِ وَشَرّ مَا تَهُبّ بِهِ الرّيَاحُ وَشَرّ بَوَائِقِ الدّهْرِ» لَينٌ. وَهُنَاكَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [الْمَائِدَةُ 3].

.بَحْثٌ يَتَعَلّقُ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ مَاتَ فِي عَرَفَةَ:

وَهُنَاكَ سَقَطَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُكَفّنَ فِي ثْوْبَيْهِ وَلَا يُمَسّ بِطِيبٍ وَأَنْ يُغَسّلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَلَا يُغَطّى رَأْسُهُ وَلَا وَجْهُهُ وَأَخْبَرَ أَنّ اللّهَ تَعَالَى يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبّي وَفِي هَذِهِ الْقِصّةِ اثْنَا عَشَرَ حُكْمًا. الْأَوّلُ وُجُوبُ غُسْلِ الْمَيّتِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهِ.

.لَا يَنْجُسُ الْمُسْلِمُ بِمَوْتِهِ:

الْحُكْمُ الثّانِي: أَنّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ لِأَنّهُ لَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَزِدْهُ غُسْلُهُ إلّا نَجَاسَةً لِأَنّ نَجَاسَةَ الْمَوْتِ لِلْحَيَوَانِ عَيْنِيّةٌ فَإِنْ سَاعَدَ الْمُنَجّسُونَ عَلَى أَنّهُ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ بَطَلَ أَنْ يَكُون نَجِسًا بِالْمَوْتِ وَإِنْ قَالُوا: لَا يَطْهُرُ لَمْ يَزِدْ الْغُسْلُ أَكْفَانَهُ وَثِيَابَهُ وَغَاسِلَهُ إلّا نَجَاسَةً. بِمَاءٍ وَسِدْرٍ لَا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى الْمَاءِ وَحْدَهُ وَقَدْ أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّدْرِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ هَذَا أَحَدُهَا.
وَالثّانِي: فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ بِالْمَاءِ وَالسّدْرِ.
وَالثّالِثُ فِي غُسْلِ الْحَائِضِ. وَفِي وُجُوبِ السّدْرِ فِي حَقّ الْحَائِضِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.

.التّغَيّرُ بِالطّاهِرَاتِ لَا يَسْلُبُ الْمَاءَ طَهُورِيّتَهُ:

الْحُكْمُ الرّابِعُ أَنّ تَغَيّرَ الْمَاءِ بِالطّاهِرَاتِ لَا يَسْلُبُهُ طَهُورِيّتَهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَنَصّ الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَأَخّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى خِلَافِهَا. وَلَمْ يَأْمُرْ بِغُسْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَاءٍ قَرَاحٍ بَلْ أَمَرَ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ أَنْ يَجْعَلْنَ فِي الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ شَيْئًا مِنْ الْكَافُورِ وَلَوْ سَلَبَهُ الطّهُورِيّةَ لَنَهَى عَنْهُ وَلَيْسَ الْقَصْدُ مُجَرّدَ اكْتِسَابِ الْمَاءِ مِنْ رَائِحَتِهِ حَتّى يَكُونَ تَغَيّرَ مُجَاوَرَةٍ بَلْ هُوَ تَطْيِيبُ الْبَدَنِ وَتَصْلِيبُهُ وَتَقْوِيتُهُ وَهَذَا إنّمَا يَحْصُلُ بِكَافُورٍ مُخَالِطٍ لَا مُجَاوِرٍ.

.إبَاحَةُ الْغُسْلِ لِلْمُحْرِمِ:

الْحُكْمُ الْخَامِسُ إبَاحَةُ الْغُسْلِ لِلْمُحْرِمِ وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ، وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَفَصَلَ بَيْنَهُمَا أَبُو أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ، بِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اغْتَسَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاتّفَقُوا عَلَى أَنّهُ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَلَكِنْ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ أَنْ يُغَيّبَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ لِأَنّهُ نَوْعُ سِتْرٍ لَهُ وَالصّحِيحُ أَنّهُ لَا بَأْسَ بِهِ فَقَدْ فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَابْنُ عَبّاسٍ.

.إبَاحَةُ الْمَاءِ وَالسّدْرِ لِلْمُحْرِمِ:

الْحُكْمُ السّادِسُ أَنّ الْمُحْرِمَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ الْمَاءِ وَالسّدْرِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَأَبَاحَهُ الشّافِعِيّ، وَأَحْمَدُ فِي أَظْهَرِ الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَمَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ عَنْهُ. قَالَ فَإِنْ فَعَلَ أَهْدَى، وَقَالَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ. وَلِلْمَانِعِينَ ثَلَاثُ عِلَلٍ. إحْدَاهَا: أَنّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامّ مِنْ رَأْسِهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ التّفَلّي.
الثّانِيةُ أَنّهُ تَرَفّهٌ وَإِزَالَةُ شَعَثٍ يُنَافِي الْإِحْرَامَ.
الثّالِثَةُ أَنّهُ يَسْتَلِذّ رَائِحَتَهُ فَأَشْبَهَ الطّيبَ وَلَا سِيّمَا الْخِطْمِيّ. وَالْعِلَلُ الثّلَاثُ وَاهِيَةٌ جِدّا، وَالصّوَابُ جَوَازُهُ لِلنّصّ وَلَمْ يُحَرّمْ اللّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ إزَالَةَ الشّعَثِ بِالِاغْتِسَالِ وَلَا قَتْلَ الْقَمْلِ وَلَيْسَ السّدْرُ مِنْ الطّيبِ فِي شَيْءٍ.

.الْكَفَنُ مُقَدّمٌ عَلَى مَا سِوَاهُ:

الْحُكْمُ السّابِعُ أَنّ الْكَفَنَ مُقَدّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ وَعَلَى الدّيْنِ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَنْ يُكَفّنَ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ وَارِثِهِ وَلَا عَنْ دَيْنٍ عَلَيْهِ. وَلَوْ اخْتَلَفَ الْحَالُ لَسَأَلَ. وَكَمَا أَنّ كِسْوَتَهُ فِي الْحَيَاةِ مُقَدّمَةٌ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَمَاتِ هَذَا كَلَامُ الْجُمْهُورِ وَفِيهِ خِلَافٌ شَاذّ لَا يُعَوّلُ عَلَيْهِ. الْحُكْمُ الثّامِنُ جَوَازُ الِاقْتِصَارِ فِي الْكَفَنِ عَلَى ثَوْبَيْنِ وَهُمَا إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَا يَجُوزُ أَقَلّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ عِنْدَ الْقُدْرَةِ لِأَنّهُ لَوْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبَيْنِ لَمْ يَجُزْ التّكْفِينُ بِالثّلَاثَةِ لِمَنْ لَهُ أَيْتَامٌ وَالصّحِيحُ خِلَافُ قَوْلِهِ وَمَا ذَكَرَهُ يُنْقَضُ بِالْخَشِنِ مَعَ الرّفِيعِ.

.الْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ الطّيبِ:

الْحُكْمُ التّاسِعُ أَنّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ الطّيبِ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى أَنْ يَمَسّ وَفِي الصّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لَا تَلْبَسُوا مِنْ الثّيَابِ شَيْئًا مَسّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ وَأَمَرَ الّذِي أَحْرَمَ فِي جُبّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمّخَ بِالْخَلُوقِ أَنْ تُنْزَعَ عَنْهُ الْجُبّةُ وَيُغْسَلَ عَنْهُ أَثَرُ الْخَلُوقِ فَعَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثّلَاثَةِ مَدَارُ مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْ الطّيبِ. وَأَصْرَحُهَا: هَذِهِ الْقِصّةُ فَإِنّ النّهْيَ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ إنّمَا هُوَ عَنْ نَوْعٍ خَاصّ مِنْ الطّيبِ لَا سِيّمَا الْخَلُوقَ فَإِنّ النّهْيَ عَنْهُ عَامّ فِي الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ نَهَى أَنْ يَقْرَبَ طِيبًا، أَوْ يُمَسّ بِهِ تَنَاوَلَ ذَلِكَ الرّأْسَ وَالْبَدَنَ وَالثّيَابَ وَأَمّا شَمّهُ مِنْ غَيْرِ مَسّ فَإِنّمَا حَرّمَهُ مَنْ حَرّمَهُ بِالْقِيَاسِ وَإِلّا فَلَفْظُ النّهْيِ لَا يَتَنَاوَلُهُ بِصَرِيحِهِ وَلَا إجْمَاعَ مَعْلُومٍ فِيهِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَلَكِنْ تَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ تَحْرِيمِ الْوَسَائِلِ فَإِنّ شَمّهُ يَدْعُو إلَى مُلَامَسَتِهِ فِي الْبَدَنِ وَالثّيَابِ كَمَا يَحْرُمُ النّظَرُ إلَى الْأَجْنَبِيّةِ لِأَنّهُ وَسِيلَةٌ إلَى غَيْرِهِ وَمَا حَرُمَ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ فَإِنّهُ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ كَمَا يُبَاحُ النّظَرُ إلَى الْأَمَةِ الْمُسْتَامَةِ وَالْمَخْطُوبَةِ وَمَنْ شَهِدَ عَلَيْهَا، أَوْ يُعَامِلُهَا، أَوْ يَطُبّهَا. وَعَلَى هَذَا، فَإِنّمَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ قَصْدِ شَمّ الطّيبِ لِلتّرَفّهِ وَاللّذّةِ فَأَمّا إذَا وَصَلَتْ الرّائِحَةُ إلَى أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ أَوْ شَمّهُ قَصْدًا لِاسْتِعْلَامِهِ عِنْدَ شِرَائِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سَدّ أَنْفِهِ فَالْأَوّلُ بِمَنْزِلَةِ نَظَرِ الْفَجْأَةِ وَالثّانِي: بِمَنْزِلَةِ نَظَرِ الْمُسْتَامِ وَالْخَاطِبِ. وَمِمّا يُوَضّحُ هَذَا، أَنّ الّذِينَ أَبَاحُوا لِلْمُحْرِمِ اسْتِدَامَةَ الطّيبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ مِنْهُمْ مَنْ صَرّحَ بِإِبَاحَةِ تَعَمّدِ شَمّهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ صَرّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالُوا: فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ لِأَبِي يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَشُمّ طِيبًا تَطَيّبَ بِهِ قَبْلَ إحْرَامِهِ قَالَ الْمُفِيدِ: إنّ الطّيبَ يَتّصِلُ بِهِ فَيَصِيرُ تَبَعًا لَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ أَذَى التّعَبِ بَعْدَ إحْرَامِهِ فَيَصِيرُ كَالسّحُورِ فِي حَقّ الصّائِمِ يَدْفَعُ بِهِ أَذَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ فِي الصّوْمِ بِخِلَافِ الثّوْبِ فَإِنّهُ بَائِنٌ عَنْهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِدَامَتِهِ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ابْتِدَائِهِ أَوْ يَجُوزُ لَهُ اسْتِدَامَتُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ جَوَازُ اسْتِدَامَتِهِ اتّبَاعًا لِمَا ثَبَتَ بِالسّنّةِ الصّحِيحَةِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يَتَطَيّبُ قَبْلَ إحْرَامِهِ، ثُمّ يُرَى وَبِيصُ الطّيبِ فِي مَفَارِقِهِ بَعْدَ إحْرَامِهِ. وَفِي لَفْظٍ وَهُوَ يُلَبّي وَفِي لَفْظٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَكُلّ هَذَا يَدْفَعُ التّأْوِيلَ الْبَاطِلَ الّذِي تَأَوّلَهُ مَنْ قَالَ إنّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَلَمّا اغْتَسَلَ ذَهَبَ أَثَرُهُ. وَفِي لَفْظٍ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ تَطَيّبَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ ثُمّ يُرَى وَبِيصُ الطّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِلّهِ مَا يَصْنَعُ التّقْلِيدُ وَنُصْرَةُ الْآرَاءِ بِأَصْحَابِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إنّ ذَلِكَ كَانَ مُخْتَصّا بِهِ وَيَرُدّ هَذَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنّ دَعْوَى الِاخْتِصَاصِ لَا تُسْمَعُ إلّا بِدَلِيلٍ.
وَالثّانِي: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَائِشَةَ، كُنّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَكّةَ، فَنُضَمّدُ جِبَاهَنَا بِالسّكّ الْمُطَيّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَإِذَا عَرِقَتْ إحْدَانَا، سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَا يَنْهَانَا.

.الْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ:

الْحُكْمُ الْعَاشِرُ أَنّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ وَالْمَرَاتِبُ فِيهِ ثَلَاثٌ مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِالِاتّفَاقِ وَجَائِزٌ بِالِاتّفَاقِ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فَالْأَوّلُ كُلّ مُتّصِلٍ مُلَامِسٍ يُرَادُ لِسِتْرِ الرّأْسِ كَالْعِمَامَةِ وَالْقُبّعَةِ وَالطّاقِيّةِ وَالْخُوذَةِ وَغَيْرِهَا.
وَالثّانِي: كَالْخَيْمَةِ وَالْبَيْتِ وَالشّجَرَةِ، وَنَحْوِهَا، وَقَدْ صَحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ ضُرِبَتْ لَهُ قُبّةٌ بِنَمِرَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ إلّا أَنّ مَالِكًا مَنَعَ الْمُحْرِمَ أَنْ يَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى شَجَرَةٍ لِيَسْتَظِلّ بِهِ وَخَالَفَهُ الْأَكْثَرُونَ وَمَنَعَ أَصْحَابُهُ الْمُحْرِمَ أَنْ يَمْشِيَ فِي ظِلّ الْمَحْمِلِ.
وَالثّالِثُ كَالْمَحْمِلِ وَالْمَحَارَةِ وَالْهَوْدَجِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللّهُ وَالثّانِي: الْمَنْعُ. فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللّهُ.
وَالثّالِثُ الْمَنْعُ فَإِنْ فَعَلَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَالثّلَاثَةُ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ. الْحُكْمُ الْحَادِي عَشَرَ مَنْعُ الْمُحْرِمِ مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمَذْهَبُ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ إبَاحَتُهُ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ الْمَنْعُ مِنْهُ وَبِإِبَاحَتِهِ قَالَ سِتّةٌ مِنْ الصّحَابَةِ عُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالزّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَجَابِرٌ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ شَاذّ: إنْ كَانَ حَيّا، فَلَهُ تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ وَإِنْ كَانَ مَيّتًا، لَمْ يَجُزْ تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَهُوَ اللّائِقُ بِظَاهِرِيّتِهِ. وَاحْتَجّ الْمُبِيحُونَ بِأَقْوَالِ هَؤُلَاءِ الصّحَابَةِ وَبِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَبِمَفْهُومِ قَوْلِهِ وَلَا تُخَمّرُوا رَأْسَهُ وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ وَلَا تُخَمّرُوا وَجْهَهُ بِأَنّ هَذِهِ اللّفْظَةَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ فِيهِ. قَالَ شُعْبَةُ: حَدّثَنِيهِ أَبُو بِشْرٍ ثُمّ سَأَلْتُهُ عَنْهُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ فَجَاءَ بِالْحَدِيثِ كَمَا كَانَ إلّا أَنّهُ قَالَ لَا تُخَمّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ قَالُوا: قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ خَمّرُوا وَجْهَهُ وَلَا تُخَمّرُوا رَأْسَهُ.

.لَا يَنْقَطِعُ الْإِحْرَامُ بِالْمَوْتِ:

الْحُكْمُ الثّانِي عَشَرَ بَقَاءُ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ عُثْمَانَ، وَعَلِيّ، وَابْنِ عَبّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ أَحَمْدُ، وَالشّافِعِيّ، وَإِسْحَاقُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيّ: يَنْقَطِعُ الْإِحْرَامُ بِالْمَوْتِ وَيُصْنَعُ بِهِ كَمَا يُصْنَعُ بِالْحَلَالِ لِقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلّا مِنْ ثَلَاثٍ قَالُوا: وَلَا دَلِيلَ فِي حَدِيثِ الّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ لِأَنّهُ خَاصّ بِهِ كَمَا قَالُوا فِي صَلَاتِهِ عَلَى النّجَاشِيّ: إنّهَا مُخْتَصّةٌ بِهِ. قَالَ الْجُمْهُورُ دَعْوَى التّخْصِيصِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَلَا تُقْبَلُ وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ فَإِنّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبّيًا إشَارَةٌ إلَى الْعِلّةِ. فَلَوْ كَانَ مُخْتَصّا بِهِ لَمْ يُشِرْ إلَى الْعِلّةِ وَلَا سِيّمَا إنْ قِيلَ لَا يَصِحّ التّعْلِيلُ بِالْعِلّةِ الْقَاصِرَةِ. وَقَدْ قَالَ نَظِيرَ هَذَا فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ، فَقَالَ زَمّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ بِكُلُومِهِمْ، فَإِنّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللّوْنُ لَوْنُ الدّمِ وَالرّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصّ بِهِمْ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ كَفّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ فَإِنّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبّيًا وَلَمْ تَقُولُوا: إنّ هَذَا خَاصّ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ فَقَطْ بَلْ عَدّيْتُمْ الْحُكْمَ إلَى سَائِرِ الشّهَدَاءِ مَعَ إمْكَانِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ التّخْصِيصِ فِيهِ. وَمَا الْفَرْقُ؟ وَشَهَادَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ وَأَيْضًا: فَإِنّ هَذَا الْحَدِيثَ مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشّرْعِ وَالْحِكْمَةِ الّتِي رُتّبَ عَلَيْهَا الْمُعَادُ فَإِنّ الْعَبْدَ يُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ وَمَنْ مَاتَ عَلَى حَالَةٍ بُعِثَ عَلَيْهَا فَلَوْ لَمْ يَرِدْ هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَتْ أُصُولُ الشّرْعِ شَاهِدَةً بِهِ. وَاللّهُ أَعْلَمُ.
فصل مُتَابَعَةُ سِيَاقِ حَجّتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:
عُدْنَا إلَى سِيَاقِ حَجّتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.

.الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَةَ:

فَلَمّا غَرَبَتْ الشّمْسُ وَاسْتَحْكَمَ غُرُوبُهَا بِحَيْثُ ذَهَبَتْ الصّفْرَةُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ وَأَفَاضَ بِالسّكِينَةِ وَضَمّ إلَيْهِ زِمَامَ نَاقَتِهِ حَتّى إنّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ طَرْفَ رَحْلِهِ وَهُوَ يَقُولُ أَيّهَا النّاسُ عَلَيْكُمْ السّكِينَةَ، فَإِنّ الْبِرّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ أَيّ لَيْسَ بِالْإِسْرَاعِ. الْمَأْزِمَيْنِ، وَدَخَلَ عَرَفَةَ مِنْ طَرِيقِ ضَبّ، وَهَكَذَا كَانَتْ عَادَتُهُ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي الْأَعْيَادِ أَنْ يُخَالِفَ الطّرِيقَ وَقَدْ تَقَدّمَ حِكْمَةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى هَدْيِهِ فِي الْعِيدِ. ثُمّ جَعَلَ يَسِيرُ الْعَنَقَ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ السّيْرِ لَيْسَ بِالسّرِيعِ وَلَا الْبَطِيءِ. فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً وَهُوَ الْمُتّسَعُ نَصّ سَيْرَهُ أَيْ رَفَعَهُ فَوْقَ ذَلِكَ وَكُلّمَا أَتَى رَبْوَةً مِنْ تِلْكَ الرّبَى، أَرْخَى لِلنّاقَةِ زِمَامَهَا قَلِيلًا حَتّى تَصْعَدَ. وَكَانَ يُلَبّي فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ لَمْ يَقْطَعْ التّلْبِيَةَ. فَلَمّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطّرِيقِ نَزَلَ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَبَالَ وَتَوَضّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: الصّلَاةَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ الصّلَاةَ- أَوْ الْمُصَلّى- أَمَامَك ثُمّ سَارَ حَتّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَتَوَضّأَ وُضُوءَ الصّلَاةِ ثُمّ أَمَرَ بِالْأَذَانِ فَأَذّنَ الْمُؤَذّنُ ثُمّ أَقَامَ فَصَلّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ حَطّ الرّحَالِ وَتَبْرِيكِ الْجِمَالِ فَلَمّا حَطّوا رِحَالَهُمْ أَمَرَ فَأُقِيمَتْ الصّلَاةُ ثُمّ صَلّى عِشَاءَ الْآخِرَةِ بِإِقَامَةٍ بِلَا أَذَانٍ، وَلَمْ يُصَلّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ صَلّاهُمَا بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ وَرُوِيَ بِإِقَامَتَيْنِ بِلَا أَذَانٍ وَالصّحِيحُ أَنّهُ صَلّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، كَمَا فَعَلَ بِعَرَفَةَ. ثُمّ نَامَ حَتّى أَصْبَحَ وَلَمْ يُحْيِ تِلْكَ اللّيْلَةَ وَلَا صَحّ عَنْهُ فِي إحْيَاءِ لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ شَيْءٌ.